موجات الحب
في قلب مدينة كانت تشتهر بجمال شواطئها وهدوء أمواجها، كان "زياد" شابًا في منتصف العشرينات، يعمل كمهندس معماري، ويميل دومًا إلى الوحدة والانعزال عن الآخرين. ورغم أنه كان محاطًا بالأصدقاء والمعارف في حياته اليومية، إلا أن قلبه كان يشعر دائمًا بالفراغ، وكأن شيئًا ما ينقصه. لم يكن يعتقد أن الحب شيء يمكن أن يأتي بسهولة، فهو كان يعشقه في صمت، يحب أن يقرأ عنه في الكتب أو يشاهده في الأفلام. كان يحلم بالحب العميق، لكنه لم يجد له مكانًا في حياته الحقيقية بعد.
لكن كل شيء تغير في يوم مشمس من أيام الصيف.
بينما كان زياد يخطط لتصميم مشروع جديد في مكتبه، جاءه اتصال غير متوقع. كان صوت امرأة، تدعى "ندى"، التي كانت تبحث عن مهندس معماري لتنفيذ فكرة مميزة لمشروعها. وكان ذلك المشروع يتعلق بتصميم فندق صغير على الشاطئ. كانت الفكرة جذابة لزياد، خاصة أن الموقع كان يقع على مقربة من البحر، الذي كان يعشقه أكثر من أي شيء آخر. قبِل العرض، رغم أنه شعر بشيء غريب في قلبه، كأن ذلك الاتصال كان نقطة تحول في حياته.
وصل زياد إلى موقع المشروع في اليوم التالي، وقابل ندى لأول مرة. كانت ندى في أواخر العشرينات، ذات عيون خضراء لامعة وشعر بني طويل، وكان جمالها طبيعيًا، لا تتصنعه. كانت هادئة في حديثها، ولكن هناك شيء في طريقة حديثها جعل زياد يشعر وكأنها تحمل في قلبها قصة قديمة. كان هناك نوع من الغموض يلف شخصيتها.
بينما كانا يناقشان تفاصيل المشروع، بدأ زياد يشعر بشيء لم يكن يتوقعه. كان هناك نوع من الانجذاب الفوري بينهما، شيء أكثر من مجرد إعجاب عابر. كانت ندى تظهر وكأنها تعرف ما تفكر فيه دون أن يتحدث. كانت كل ابتسامة، وكل نظرة، تحمل شيئًا خاصًا، وكأنهما يتبادلان حديثًا صامتًا لا يفهمه سوى قلبهما.
بينما كان يعمل على تصميم الفندق، بدأ زياد يقضي وقتًا أطول مع ندى، وكانت الأيام تمضي بسرعة. كان الحديث بينهما يتنوع بين الأمور المهنية والأمور الشخصية. واكتشف زياد أن ندى كانت قد مرت بتجربة قاسية في الماضي؛ فقد فقدت والدها في حادث منذ سنوات، وكانت قد اختارت الابتعاد عن الجميع لتجنب الألم. ورغم مرارة الماضي، كانت ندى تتطلع إلى المستقبل بأمل، وكانت تريد أن تحقق أحلامها ببناء مشروع جديد يكون نقطة انطلاق لحياة جديدة.
مرت الأسابيع، وبدأ زياد يشعر بشيء يتطور في قلبه نحو ندى. كان يجد نفسه ينتظر اللحظات التي يلتقي فيها بها، وكان يفكر فيها طوال الوقت. في أحد الأيام، أثناء تواجدهما في موقع المشروع، قررا أن يأخذا استراحة قصيرة على الشاطئ. جلسا على الرمال، وكانت الأمواج تلامس الشاطئ برقة، وتحت سماءٍ تميل إلى الألوان الذهبية عند الغروب. كان المنظر خلابًا، وكانت الأجواء هادئة تمامًا، فقط صوت الأمواج هو الذي يملأ المكان.
قال زياد بصوت هادئ: "ندى، أعتقد أنني بدأت أشعر بشيء تجاهك."
نظرت ندى إليه للحظة، ثم ابتسمت برقة وقالت: "وأنا أيضًا، زياد. لكنني لا أريد أن أخسر شيء آخر."
كان الجو مشحونًا بالحنين والمشاعر المكبوتة. شعر زياد أن هناك جدارًا بينهما، جدار من الخوف والتردد، لكن قلبه كان يأبى أن يتراجع. اقترب منها بلطف، وقال: "أنا مستعد أن أخاطر. لا أريد أن أعيش في ظل الماضي بعد الآن."
ثم، في لحظة غامضة تحت ضوء الغروب، تلاقى نظراتهما. كانت تلك اللحظة التي شعر فيها كل منهما أنهما قد وجدا شيئًا يشتاقان إليه. كان هناك شيء في قلب زياد يخبره أن ندى هي الأمل الذي كان يبحث عنه.
مع مرور الأيام، أصبحا يقتربان من بعضهما أكثر. كانت ندى تدعوه أحيانًا لتناول العشاء في منزلها، وكان زياد يرافقها إلى الأسواق المحلية أو يقضيان وقتًا طويلًا على الشاطئ. وكان كل لقاء بينهما يكشف لهما عن عمق آخر في علاقتهما، حتى بدأت مشاعرهما تتدفق بحرية، دون أي مقاومة.
لكن الأمور لم تكن دائمًا هادئة. في أحد الأيام، اكتشف زياد شيئًا لم يكن يتوقعه. كان يعمل على التصميم في مكتبه عندما وصلته رسالة مفاجئة من ندى. في الرسالة، قالت إنها تحتاج إلى فترة من الزمن لتفكر، لأن لديها بعض الأمور التي يجب أن تتعامل معها. شعر زياد بصدمة، وكأن قلبه قد تمزق. كان يتساءل عن السبب الذي جعل ندى تشعر بالحاجة للابتعاد. هل كانت تبتعد بسبب مشاعرها تجاهه؟ أم أن الماضي الذي كانت تخشاه قد عاد ليطاردها مجددًا؟
أيام مرت دون أن يسمع صوتها، وعاش زياد في حالة من القلق والضياع. لكنه لم يكن يستطيع أن ينسى ما بينهما. قرر أن يذهب إليها، وأن يواجه مخاوفه. في أحد المساءات، ذهب زياد إلى منزلها، وقبل أن يطرق الباب، شعر أن قلبه يخفق بشدة. كانت ندى تجلس على شرفتها، تتأمل البحر كما اعتادت.
قالت له وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالحزن: "كنت أعرف أنك ستأتي، زياد."
جلس بجانبها بهدوء وقال: "أريد أن أعرف، ندى، لماذا ابتعدت عني؟"
تنهدت ندى وقالت: "لأنني كنت أخشى أن أفقدك، وأخشى أن أكرر أخطاء الماضي. كنت أخشى أن أضعك في مكانٍ فيه ألم جديد."
نظرت إليه بابتسامة حزينة وأكملت: "لكني لا أستطيع العيش في خوف بعد الآن. أنا أحبك، زياد، وأريد أن أكون معك."
في تلك اللحظة، شعر زياد أن كل شيء في حياته قد اكتمل. كانت تلك اللحظة التي كان ينتظرها، لحظة الحب التي لا تُقاس بالوقت ولا بالمسافة. احتضن ندى بحنان، وقال: "إذا كان هناك شيء واحد لا أندم عليه، فهو أنني أحببتك، وسأظل أحبك."
ومن تلك اللحظة، بدأ فصل جديد في حياتهما، فصل مليء بالحب والطمأنينة. كان البحر، الذي كان يشهد على بداية علاقتهما، الآن يشهد على نهاية خوفهما وبداية حياة جديدة. أصبح الشاطئ مكانًا مميزًا لهما، حيث يتقابلان معًا، ويشاهدان الغروب، ويتبادلان العهود.
لكن الحياة لا تتوقف عند هذا الحد، والمستقبل لا يأتي دون تحديات. ومع ذلك، كان لديهما شيء واحد مشترك: القوة للحب، والقوة للمضي قدمًا معًا، مهما كانت العواصف القادمة.
تدريجيًا، أصبح حبهما أقوى، وأعمق، وأصبح الشاطئ هو المكان الذي يجمعهما دائمًا، حيث الأمواج تنسحب وتعود، كما يفعل الحب في حياتهما.
تعليقات
إرسال تعليق